نظريات التعلم: النظرية الجشطلتية
يشير لفظ الجشطلت، في اللغة الألمانية إلى الشكل، أو الصيغة، أو الهيئة، أو الصورة، أو البنية، أو النسق الكلي... وهو عبارة عن نسق بنيوي كلي، يتكون من مجموعة من البنيات الجزئية التي لها دور أو وظيفة داخل هذا النسق الذي يتسم بالاتساق والانسجام. وأي تغيير يحدث في أي جزء أو بنية داخل النسق، يؤثر ذلك، بدوره، في تغيير النسق الكلي، سواء أكان ذلك التغيير جزئيا أو كليا. ويعني هذا كله أن المرء يتعلم الأشياء بنيويا ونسقيا، ويدركها في كلياتها التي تتضمن جزئياتها الصغرى.
وقد ظهرت سيكولوجيا الشكل (Psychologie de la forme) ، أو النظرية الجشطلتية (Gestaltthéorie) في برلين، ما بين 1910-1920م. وترتبط بمجموعة من الأسماء هي: فيرتيمير(Wertheimer)، وكوهلر(Köhler)، وكوفكا (Koffka)...
وبناء على ما سبق، ترتكز النظرية الجشطلتية على المجال الإدراكي الكلي لأجزاء. بمعنى أننا ندرك الكل فالأجزاء. و يقترب هذا من التيار البنيوي الذي يدرس النسق في كليته وشموليته. بمعنى أنه يتضمن مجموعة من العناصر الجزئية التي تنتمي إلى هذا الكل عبر علاقات بنيوية وظيفية قائمة على الاختلاف. وبالتالي، يتولد المعنى من خلال هذا المختلف من الأجزاء، والعناصر، والعلاقات. ومن ثم، يعني الجشطلت الشكل، أو الصيغة، أو المجال، أو النسق الكلي الذي يتمثل في مجموعة من الأشكال والصيغ والأنساق المدركة. وبالتالي، يبدو أن للجشطلتية أبعادا ثقافية مختلفة متنوعة. فهي تهتم بالآليات الإدراكية ومعالجة المعلومات التي يقوم بها الذهن أو العقل، من خلال إعطاء نوع من الاتساق للظواهر المدركة. ومن ثم، يتحقق التعلم لدى الأفراد بإدراك ما هو كلي، ثم يعقبه ما هو جزئي. أي: يتضمن العلم الكليات التي تتضمن، بدورها، الجزئيات.
وقد استفادت هذه النظرية من فلسفات الوعي في القرن السابع عشر الميلادي، بتمثل منهج الملاحظة والتجريب العلمي في القرن التاسع عشر. ومن ثم، تركز النظرية على الشكل الذي يسمح لنا بإدراك الأشياء الجزئية الأخرى؛ حيث يقوم الوعي بإدراك الكل ثم الأجزاء. ومن ثم، يكون الكل أسمى وأفضل من الجزء.
وإذا كانت السلوكية تعنى بخلق وضعيات بيئية تحفيزية أمام الفرد للتفاعل معها، فإن الجشطلتية تركز على كيفية معالجة الوعي للمعلومات. ومن هنا، تؤمن الجشطلتية أن الإنسان أو الحيوان يتعلم بالاستبصار والإدراك معا. ويعني الاستبصار إدراك المجال الإدراكي بسهولة، وتبين مختلف الحلول لمعالجة الموقف. بمعنى أن الاستبصار هو نوع من النشاط الذكائي الذهني المتوقد الذي يدفع المتعلم إلى فهم عناصر الوضعية وتفهمها بشكل جيد . وبعد تأمل عميق لمختلف عناصر الموقف أو الوضعية، يتوصل المتعلم، بشكل فجائي وسريع، إلى الحل المناسب.
وللتمثيل، إذا أعطيت للإنسان مجموعة من المفاتيح لفتح باب مغلق، فإنه لن يفتح الباب بشكل عشوائي إلا إذا كان مغمض العينين، أما إذا حررنا حواسه من كل عائق، فإنه سيلاحظ القفل، وينظم مجاله الإدراكي، ثم يتثبت من شكل القفل وصورته وهيئته، ثم يبحث عن طبيعة المفتاح الذي يتشابه مع القفل، ثم يدخل المفتاح المنتقى في ذلك القفل. آنذاك، تتحقق النتيجة اليقينية بفتح الباب على مصراعيه. ويعني هذا أن الاستبصار هو تعلم ناتج عن عملية ذكائية محكمة للمجال الإدراكي الكلي، بتنظيم عناصره، وإدراك جزئياته. وفي هذا الصدد، أجرى كوهلر تجارب عدة على الحيوان، ولا سيما فئة القردة من الشامبانزي، لبناء نظريته الجشطلتية، فقد تو صل إلى أن الحيوان يتعلم بالاستبصار والإدراك كالإنسان.
ويبدو أن الجشطلتية نظرية بنيوية مجالية وإدراكية بامتياز، ترى أن التعلم يتحقق لدى الحيوان والإنسان معا بإدراك النسق أو المجال الكلي. وبذلك، تتجاوز المدرسة السلوكية التي اهتمت بربط السلوك الخارجي بثنائية المثير والاستجابة نحو سيكولوجيا معرفية وذهنية وإدراكية ومجالية، تهتم بما هو معرفي وعقلي وذكائي داخلي.
فمثلا، لو تأملنا شكل المربع، فإننا نراه جملة، ولا نراه على أنه مجموعة أضلاع، وزوايا، ورؤوس، بل نرى تلك العناصر كلها على أنها كل، والضلع ضلع مربع، والزاوية زاوية مربع، والرأس رأس مربع. وهكذا، دواليك. أي: إن صفات الجزء تكون مشتقة منصفة الكل الذي ينتمي إليه هذا الجزء
اكتب تعليق على الموضوع