نظرية النمو المعرفي جان بياجيه

مراحل نظرية بياجي في النمو المعرفي



  ظهرت السيكولوجيا التكوينية في منتصف القرن العشرين، متأثرة في ذلك بالبنيوية اللســـانية، ومؤثرة في البنيوية التكوينية التي تمثلها لوسـيان كولدمان (Lucien Goldmann) في سـنوات السـتين من القرن الماضي.

  من هنا، يرفض المنظور البنائي (CONSTRUCTIVISTE) النزعتين الوراثية والتجريبية، " بمعنى أن بنيات الذكـاء لا تحدد بشكـل قبلي من خلال المعطى الوراثي . إذ لا وجود لبنيـات معطاة في البداية، كما أن البنيات ليست نتيجة حتمية لظروف تجريبية خارجية إن البنيات الذهنية تتكون حسب مراحل العمر. ويستلزم ذلك ثلاثة شروط

النضج العصبي: ويقصد به درجة التطور أو النمو الذي بلغه الجهاز العصبي الذي يؤثر لا محالة في العمليات الـذهنية . فهناك من الأنشطـة أو الأفعال التي لا يمكن أن تطهر إذا لم يسبقهـا نضـج في العضوية. يقول بياجي :
" أي ضرورة انتظار نمو البنيات العصبية خلال السنة الثانية قبل أن يقوى الطفل على اكتساب اللغة التي ستكون عاملا لمزاولة العمليات الذهنية. "
- المحيط الاجتماعي : يتضح دور البيئـة الاجتماعيـة وأنماط التربية التي يتلقاها الطفل في كونهـا تعجل أو تؤخر - في حدود معقولة - نمو وظهور البنيات الذهنية فوجود الطفل في بيئة غنية بأشكال التواصل والتحفيز يمكن أن تساعد على النمو السريع والسليم لقدراته واستعداداته.
- التجربة العملية : إن تشـجيع فضول الطفل من خلال تصـميم وضعيات تقليدية تمكنه من القيام بتجاربه الخاصة ومحاولاته الفردية التي تسـتهدف إيجاد الحلول المناسـبة للمشـكلات المطروحة أمامه - كفيل بأن يساعد على نمو نشاط التلميذ .
ركز جـان بيـاجي (Jean  Piagetوشـريكتـه إينهيلـدر (Inhelder) ، ضـمن مقـاربتهمـا النفسية التكوينية، على تبيان كيف يتطور التفكير عند الطفل، من خلال مروره بمجموعة من المراحل العمرية المختلفة، وكيف يحقق نوعا من التوازن مع الخـارج بواسـطـة التفـاعـل البنيوي التكويني بين الذات والموضوع، أو بين الذكاء والبيئة.

  وقد تمثل جان بياجي الملاحظة العلمية المنظمة في تجاربه العلمية، حين رصد مختلف المراحل التي كان يمر بها طفله إلى أن وصل فترة المراهقة. كما استرشد أيضا بتعاليم فلسفة كانط الألماني، حينما بين أن الطفل، في تعلمه، ال يعتمد فقط على حواسه، بل يشغل أيضا قدراته العقلية والفطرية والمنطقية في اكتساب المعرفة. وبالتالي، يعرف مجموعة من العمليات المنطقية البديهية، مثل: السببية، والزمان، والمكان، وديمومة الأشياء...

  ومن ثم، يرى جان بياجي أن الذكاء ناتج عن الترابط البنيوي بين الخبرة والنضج. ومن ثم، فالذكاء عبارة عن عمليات عقلية ناضجة، تساعد الطفل على التكيف والتأقلم إيجابيا مع بيئته. ويعني هذا أن الطفل الذكي هو الذي يستعمل مجموعة من الاستراتيجيات العقلية والمنطقية للتعامل مع بيئته تكيفا عبر طريقين هما: التمثل (الاستيعاب) والملاءمة (المشابهة).

  ويقصد بالتمثل استيعاب خبرات البيئة عن طريق التحكم فيها أو تغييرها جزئيا أو كليا لتحقيق نوع من التوازن مع الواقع الخارجي، وهو بمثابة تعلم جديد. علاوة على ملاءمة الخبرات القديمة والمتشابهة مع الوقائع الجديدة في أثناء التعامل مع البيئة. ويعني التوازن عند بياجي انسجام الطفل عقليا وجسديا مع متطلبات المحيط وبيئته.

مراحل النمو المعرفي عند بياجي

علاوة على هذا، فقد حدد جان بياجي أربع مراحل نفسية وتربوية هي:
  • المرحلة الحسية الحركية، وتمتد من لحظة الميلاد حتى السنة الثانية؛
  • مرحلة ما قبل العمليات، وتبتدئ من السنة الثانية حتى السنة السابعة؛
  • مرحلة العمليات المادية أو الحسية، وتبتدئ من السنة السابعة حتى السنة الحادية عشرة؛
  • مرحلة التفكير المجرد، وتبتدئ من السنة الثانية عشرة إلى بداية فترة المراهقة.
  ويعني هذا أن الطفل، في تعلمه ونموه العقلي والجسدي، ينتقل من المستوى المحسوس إلى
المستوى المجرد. وإذا كان الطفل ميالا، في تعلمه، إلى ما هو حسي وحركي ومشخص ومجسد، فإن الفرد
، في فترة المراهقة، يميل إلى التجريد والخيال والإبداع والابتكار. ويعني هذا أن السيكولوجيا التكوينية قد قاربت فترة المراهقة من منظور عقلي وذهني ومعرفي، وركزت كثيرا على السيرورة النمائية الذكائية والعقلية. وبذلك، فقد كانت من المدارس الأولى التي مهدت للسيكولوجيا المعرفية في منتصف القرن العشرين

  أضـف إلى ذلـك أن مرحلة المراهقة - عنـد جـان بيـاجي- تتميز بخـاصـيـة التجريـد ، والميـل نحو العمليـات المنطقيـة، والابتعـاد عن الفكر الحسي الملموس العيـاني (Concret) ، وينتقـل الـذكـاء المنطقي والريا ضي - عند المراهق- من مرحلة العمليات المشخصة نحو البناء الصوري المنطقي، أوينتقل من الطـابع الحسي نحو الطـابع الرمزي المجرد. ويعود ذلـك إلى السيرورة الطبيعيـة للنمو الـذهني والمعرفي الــذي يتماثل- بنيويا مع النمو البيولوجي ، وتطور المحيط والبيئة. وبتعبير آخر، يتطور الذكاء عند المراهق بـاسـتخـدام لغـة الرموز والـذكـاء المنطقي، وإيجـاد الحلول المنـاسبـة للوضعيات التي يطرحهـا المحيط الخارجي.

  فضـلا عن ذلك، يكتسب الطفل - في هذه المرحلة - آليات الاستدلال والبرهنة والافتراض اسـتقراء واسـتنباطا، ويحل الوضعيات الرياضية والمنطقية المعقدة، ويميل إلى التفكير الفلســــفي والنسـقي. ويجعلـه هـذا كلـه في توازن تـام مع الطبيعـة أو البيئـة التي تحيط بـه مستخـدما في ذلك مجموعـة من العمليات ، مثل: التكيف، والتأقلم، والمماثلة، والاستيعاب، والتو افق، والمواءمة، والانسجام.

  وفي هـذا الصدد، يرى جـان بيـاجي أن" جميع الكـائنـات الحيـة لـديهـا قـابليـة فطريـة لإيجـاد علاقـة توافق أو تكيف مع البيئة من خلال ما يسـمى بالتوازن. وهذا التوازن هو القابلية الفطرية لتهيئة قدرات الفرد وخبراته لتحقيق أكبر قدر ممكن من التكيف. ويمكن تعريف التوازن بأنه نجـاح الفرد في توظيف إمكاناته مع متطلبات البيئة حوله. وتســـــمى عملية الاســـــتجابة للبيئة طبقا للبناء المعرفي للفرد بعملية التمثل، والتي تعتمد على نوع التفاعل بين البنى المعرفية والبيئة الطبيعية ، والبنى المعرفية الماثلة في أي لحظة إنما تشـمل ما أمكن للكائن الحي استيعابه وتمثله. ومن الواضح أنه إذا كان التمثل هو العملية المعرفيـة الوحيـدة، فلن يكون هنـاك نمو عقلي، حيـث إن الطفـل سـوف يعتمـد في تمثيـل خبراتـه على الإطـار المحـدد لما هو مـاثـل في بنيتـه المعرفيـة. لـذا، فـإن العمليـة الثـانيـة تسـمى المواءمـة، والموائمـة هي العملية التي بواسطتها تتكيف أو تتعدل البنى المعرفية ويحدث من خلالها النمو المعرفي . أي: إن عملية التمثيل تســـــمح للكائن الحي ليستجيب للموقف الراهن في ضـــــوء المعرفة أو الخبرات الســـــابقة لديه. وبســبب الخصائص الفريدة التي ال يمكن الاســتجابة لها في ضــوء المعرفة الســابقة وحدها ، فإنه يمكن
القول بأن هذه الخبرات الجديدة للفرد تسـبب اضطرابا أو عدم توازن في بنائها المعرفي في بادىء الأمر. ثم لا تلبث أن تنسـجم وتتزن مع البناء المعرفي، وبما أن التوازن حاجة فطرية، فإن البنى المعرفية تتغير لكي تتواءم مع خصائص الخبرات الجديدة أو المواقف الجديدة. وبالتالي، يحدث الاتزان المعرفي . وهذا التناقض  التدريجي في الاعتماد على البيئة الطبيعية والزيادة في اسـتخدام القدرات أو البناء المعرفي هو ما يسـمى بالاستدخال، ومع اسـتدخال قدر أكبر من الخبرات، يصــــبح التفكير أداة للتكيف مع البيئة.

  وتتميز هـذه المرحلـة كـذلـك بميـل المراهق إلى الانتبـاه من حيـث المدة والطول والعمق، كمـا يتبين ذلك بجلاء حين متابعته لفيلم طويل، أو مباراة في كرة القدم، أو قصة طويلة مسـترسلة. علاوة على قـدرتـه على التخيـل والتخييـل والتـذكر والإبداع والابتكـار، والميـل إلى الشرود وأحلام اليقظـة، والإكثـار من الرحلات وحب المغامرة والاستطلاع، والتحرر من البرامج الـدراسـية، والميل إلى القراءة الحرة ،ولا سـيما قراءة الكتب العلمية والدينية، وقراءة شعر الغزل، وسماع الأغاني الشبابية لدى الذكور، أو سماع الأغاني الرومانسية عند الإناث. ويلاحظ أن عالم الطفل يختلف عن عالم المراهق، فالعالم الأول عالم محدود وضيق، ومسـيج بالحسـية والتشخيص والإحيائية. في حين، يتميز العالم الثاني بخاصية التجريد والتخييل والتجاوز لما هو حسي وعقلي. وفي هذا النطاق، يقول أحمد أوزي:

  إن العالم العقلي للمراهق يختلف عن العالم العقلي للطفل، إذ إن عالم المراهقة أكثر تناســـــقا وانتظاما وأكثر معنوية وتجريدا مما يســمح للمراهق بالاســتمتاع بالنشــاط العقلي وقضــاء أوقات طويلة في التفكير والتأمل في مســائل معنوية كالخير والفضــيلة والشــــــجاعة والعدالة ومعنى الحياة. حتى إنه يمكن القول بـأن مرحلـة المراهقـة هي مرحلـة الفلسفـة المعقلنة ، بعـد أن كـانـت فترة الطفولـة الأولى فترة الفلســـفة الســـاذجة والبســـيطة. فالأس
ـئلة الفلســـفية التي يلقيها طفل الرابعة أو الخامسة يجيبه عنها الآباء والمدرسون في جميع الحالات. بخلاف الأسـئلة الفلسـفية التي تشـغل المراهق في هذه الفترة، فهي أسئلة يطرحها على نفسه، ويبحث فيها بقدرته العقلية. لأنه لم يعد ذلك الطفل المتقبل لكل شيء. إن المراهق يطرح للنقـاش العقلي المبـادىء الخلقيـة التي تلقاهـا من قبـل، ويتساءل عن ضرورتهـا. كمـا أنـه يتساءل عن علل الكون والحياة وعن الدين وقيمته الروحية والاجتماعية. وبقدر ما يناقش المراهق هذه المسائل بالمنطق والعقل، فإنه يؤكد ذاته ووجوده من خلال هذا التفكير الذي يشعره بين رفاقه بقيمته. كما يعود إلى ذاته بعد كل نقاش يخوضه وينتصر فيه ليقارن معرفته ووضعه الفكري بوضع الطفولة وسذاجتها. لهذا، يرفض من الآن فصـاعدا اعتباره طفلا، فهو على اسـتعداد لمناقشــــة الأب والأســــتاذ والصديق، بل وتحدي هؤلاء جميعا إذا لم يعترفوا له بالوجود والقيمة.

  ومن خلال تفاعل المراهق مع مختلف أفراد مجتمعه واستخدامه للإمكانيات والقدرات العقلية تتكون اتجاهاته وتتبلور. فمن خلال مختلف المواقف التي يخبرها في مجتمعه تتكون اتجاهاته التي تتحكم في سـلوكه وتوجهه. لهذا، نجد للمراهق في هذه الفترة وجهات نظره الخاصـة التي يتحمس للدفاع عنها في مختلف المجالس والأندية.

  وعليـه، تتسـم هـذه المرحلـة بقوة الإدراك والملاحظـة عنـد المراهق، ونمو قدراته العقليـة والمعرفية والكفائية، وقدرته على التمثل والاستيعاب والحفظ والبرهنة والتجريب والتخييل والإبداع والتجريد.
تربية وتعليم
تربية وتعليم
تعليقات